سورة الرعد - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


لما تقدم تعجب الكفار واستبعادهم البعث من القبور- قص في هذه الآيات المثل المنبهة على قدرة الله تعالى القاضية بتجويز البعث:
فمن ذلك هذه الواحدة من الخمس التي هي من مفاتيح الغيب، وهي أن الله تعالى انفرد بمعرفة ما تحمل به الإناث، من الأجنة من كل نوع من الحيوان؛ وهذه البدأة تبين أنه لا تتعذر على القادر عليها الإعادة.
و {ما} في قوله: {ما تحمل} يصح أن تكون بمعنى الذي، مفعولة {يعلم} ويصح أن تكون مصدرية، مفعولة أيضاً ب {يعلم}، ويصح أن تكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، والخبر: {تحمل} وفي هذا الوجه ضعف.
وفي مصحف أبي بن كعب: {ما تحمل كل أنثى وما تضع}.
وقوله: {وما تغيض الأرحام} معناه: ما تنقص، وذلك أنه من معنى قوله: {وغيض الماء} [هود: 44] وهو بمعنى النضوب فهي- هاهنا- بمعنى زوال شيء عن الرحم وذهابه، فلما قابله قوله: {وما تزداد} فسر بمعنى النقصان: ثم اختلف المتأولون في صورة الزيادة والنقصان: فقال مجاهد غيض الرحم أن يهرق دماً على الحمل، وإذا كان ذلك ضعف الولد في البطن وشحب، فإذا أكملت الحامل تسعة أشهر لم تضع وبقي الولد في بطنها زيادة من الزمن يكمل فيها من جسمه وصحته ما نقص بمهراقة الدم، فهذا هو معنى قوله: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} وجمهور المتأولين على أن غيض الرحم الدم على الحمل.
وذهب بعض الناس إلى أن غيضه هو نضوب الدم فيه وامتساكه بعد عادة إرساله بالحيض، فيكون قوله: {وما تزداد}- بعد ذلك- جارياً مجرى {تغيض} على غير مقابلة، بل غيض الرحم هو بمعنى الزيادة فيه.
وقال الضحاك: غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد، والزيادة أن تضعه لمدة كاملة تاماً في خلقه.
وقال قتادة: الغيض: السقط، والزيادة: البقاء بعد تسعة أشهر.
وقوله: {وكل شيء عنده بمقدار} لفظ عام في كل ما يدخله التقدير، و{الغيب}: ما غاب عن الإدراكات، و{الشهادة}: ما شهود من الأمور، ووضع المصادر موضع الأشياء التي كل واحد منها لا بد أن يتصف بإحدى الحالتين.
وقوله: {الكبير} صفة تعظيم على الإطلاق، والمتعالي من العلو.
واختلفت القراءة في الوقف على المتعال: فأثبت ابن كثير وأبو عمرو- في بعض ما روي عنه- الياء في الوصل والوقف، ولم يثبتها الباقون في وصل ولا وقف. وإثباتها هو الوجه والباب. واستسهل سيبويه حذفها في الفواصل- كهذه الآية- قياساً على القوافي في الشعر، ويقبح حذفها في غير فاصلة ولا شعر، ولكن وجهه أنه لما كان التنوين يعاقب الألف واللام أبداً، وكانت هذه الياء تحذف مع التنوين، حسن أن تحذف مع معاقبة.
قال القاضي أبو محمد: ويتصل بهذه الآية فقد يحسن ذكره. فمن ذلك اختلاف الفقهاء في الدم الذي تراه الحامل، فذهب مالك رحمه الله وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وجماعة، إلى أنه حيض. وقالت فرقة عظيمة: ليس حيض، ولو كان حيضاً لما صح استبراء الأمة بحيض وهو إجماع. وروي عن مالك- في كتاب محمد- ما يقتضي أنه ليس بحيض، ومن ذلك أن الأمة مجمعة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذلك منتزع من قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [الأحقاف: 15] مع قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة: 233].
وهذه الستة أشهر هي بالأهلة- كسائر أشهر الشريعة- ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك- وأظنه في كتاب ابن حارث- أنه إن نقص من الأشهر الستة ثلاثة أيام، فإن الولد يلحق لعلة نقص الشهور وزيادتها واختلف في أكثر الحمل فقيل تسعة أشهر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقالت عائشة وجماعة من العلماء أكثره حولان، وقالت فرقة: ثلاثة أعوام وفي المدونة: أربعة أعوام وخمسة أعوام. وقال ابن شهاب وغيره: سبعة أعوام، ويروى أن ابن عجلان ولدت امرأته لسبعة أعوام، وروي أن الضحاك بن مزاحم بقي حولين- قال: وولدت وقد نبتت ثناياي، وروي أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر.
وقوله تعالى: {سواء منكم} الآية: {سواء} مصدر وهو يطلب بعده شيئين يتماثلان. ورفعه على خبر الابتداء الذي هو من والمصدر لا يكون خبراً إلا بإضمار كما قالت الخنساء: [البسيط]:
.................. *** فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وإدبار. فقالت فرقة هنا: المعنى: ذو سواء، وقال الزجاج كثر استعمال سواء في كلام العرب حتى جرى مجرى اسم الفاعل فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: هو عندي كعدل وزور وضيف.
وقالت فرقة: المعنى: مستوٍ منكم، فلا يحتاج إلى إضمار.
قال القاضي أبو محمد: وضعف هذا سيبويه بأنه ابتداء بنكرة.
ومعنى هذه الآية: معتدل منكم في إحاطة الله تعالى وعلمه من أسر قوله فهمس به في نفسه، {ومن جهر به} فأسمع، لا يخفى على الله تعالى شيء.
وقوله تعالى: {ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} معناه: من هو بالليل في غاية الاختفاء، ومن هو متصرف بالنهار ذاهب لوجهه، سواء في علم الله تعالى وإحاطته بهما. وذهب ابن عباس ومجاهد إلى معنى مقتضاه: أن المستخفي والسارب هو رجل واحد مريب بالليل، ويظهر بالنهار البراءة في التصرف مع الناس.
قال القاضي أبو محمد: فهذا قسم واحد جعل الليل نهار راحته، والمعنى: هذا والذي أمره كله واحد بريء من الرب سواء في اطلاع الله تعالى على الكل، ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار {من} ولا يأتي حذفها إلا في الشعر والسارب- في اللغة- المتصرف كيف شاء، ومن ذلك قول الشاعر: [الأخنس بن شهاب الثعلبي] [الطويل]
أرى كل قوم كاربوا قيد محلهم *** ونحن حللنا قيده فهو سارب
أي متصرف غير مدفوع عن جهة، هذا رجل يفتخر بعزة قومه، ومن ذلك قول الآخر: [قيس بن الخطيم] [الكامل]
إني سربت وكنت غير سروب *** وتقرب الأحلام غير قريب
وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف: فالذي يسر طرف، والذي يجهر طرف مضاد للأول، والثالث: متوسط متلون: يعصي بالليل مستخفياً، ويظهر البراءة بالنهار. و{القول} في الآية يطرد معناه في الأعمال.
وقال قطرب- فيما حكى الزجاج- {مستخف} معناه: الظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته.
قال القاضي أبو محمد: قال امرؤ القيس: [الطويل]
خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشي مجلّب
قال: و{سارب} معناه: متوار في سرب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول- وإن كان تعلقه باللغة بيناً- فضعيف، لأن اقتران الليل بـ المستخفي، والنهار بـ السارب- يرد على هذا القول.


اختلف المتأولون في غير عود الضمير من {له}: فقالت فرقة: هو عائد على اسم الله عز وجل المتقدم ذكره، والمعقبات- على هذا الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم، والحفظة لهم أيضاً- قاله الحسن، وروى فيه عثمان بن عفان حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول مجاهد والنخعي- والضمير على هذا في قوله: {يديه} وما بعده من الضمائر عائد على العبد المذكور في قوله: {من هو مستخف} [الرعد: 10] و{من أمر الله} يحتمل أن يكون صفة ل {معقبات} ويحتمل أن يكون المعنى: يحفظونه من كل ما جرى القدر باندفاعه، فإذا جاء المقدور الواقع أسلم المرء إليه.
وقال ابن عباس أيضاً: الضمير في {له} عائد على المذكور في قوله {من هو مستخف بالليل} [الرعد: 10] وكذلك باقي الضمائر التي في الآية، قالوا: و{معقبات}- على هذا- حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا: والآية- على هذا- في الرؤساء الكافرين، واختار هذا القول الطبري، وهو قول عكرمة وجماعة، قال عكرمة: هي المواكب خلفه وأمامه.
قال القاضي أبو محمد: ويصح على التأويل الأول الذي قبل هذا أن يكون الضمير في {له} للعبد المؤمن على معنى جعل الله له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل عندي أقوى، لأن غرض الآية إنما هو التنبيه على قدرة الله تعالى، فذكر استواء {من هو مستخف} [الرعد: 10] ومن هو {سارب} [الرعد: 10] وأن {له معقبات} من الله تحفظه في كل حال، ثم ذكر أن الله تعالى لا يغير هذه الحالة من الحفظ للعبد حتى يغير ما بنفسه.
قال القاضي أبو محمد: وعلى كلا التأويلين ليست الضمائر لمعين من البشر.
وقال عبد الرحمن بن زيد: الآية في النبي عليه السلام، ونزلت في حفظ الله له من أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل في القصة التي ستأتي بعد هذا في ذكر الصواعق.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وإن كانت بألفاظها تنطبق على معنى القصة فيضعف القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتقدم له ذكر فيعود الضمير في {له} عليه.
و المعقبات: الجماعات التي يعقب بعضها بعضاً، فعلى التأويل الأول هي الملائكة، وينظر هذا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة المغرب والصبح»، وعلى التأويل الثاني: هي الحرس والوزعة الذين للملوك.
و {معقبات} جمع معقبة وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى، والتعقيب- بالجملة- أن تكون حال تعقبها حال أخرى من نوعها، وقد تكون من غير النوع، ومنه معاقبة الركوب ومعاقبة الجاني ومعقب عقبة القدر والمعاقبة في الأزواج، ومنه قول سلامة بن جندل: [البسيط]
وكرّنا الخيل في آثارهم رجعاً *** كسر السنابك من بدء وتعقيب
وقرأ عبيد الله بن زياد على المنبر: {له معاقيب} قال أبو الفتح: هو تكسير معقب.
قال القاضي أبو محمد: بسكون العين وكسر القاف كمطعم ومطاعيم، ومقدم ومقاديم.
وهي قراءة أبي البرهسم- فكأن معقباً جمع على معاقبة ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في معاقبة، والمعقبة ليست جمع معقب- كما ذكر ذلك الطبري وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات، وليس الأمر كما ذكر لأن تلك كجمل وجمالات، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضاربة وضاربات.
وفي قراءة أبيّ بن كعب {من بين يديه ورقيب من خلفه}، وقرأ ابن عباس: {ورقباء من خلفه}، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ: {معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله}.
وقوله: {يحفظونه} يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون بمعنى يحرسونه، ويذبون عنه: فالضمير محمول ليحفظ.
والمعنى الثاني أن يكون بمعنى حفظ الأقوال وتحصيلها، ففي اللفظة حينئذ حذف مضاف تقديره: يحفظون أعماله، ويكون هذا حينئذ من باب {واسأل القرية} [يوسف: 82] وهذا قول ابن جريج.
وقوله: {من أمر الله} من جعل {يحفظونه} بمعنى يحرسونه كان معنى قوله: {من أمر الله} يراد به المعقبات، فيكون في الآية تقديم وتأخير، أي {له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه} قال أبو الفتح: ف {من أمر الله} في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع وهي المعقبات.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل هذا التأويل في قوله: {من أمر الله} مع التأويل الأول في {يحفظونه}.
ومن تأول الضمير في {له} عائد على العبد، وجعل المعقبات الحرس، وجعل الآية في رؤساء الكافرين- جعل قوله {من أمر الله} بمعنى يحفظونه بزعمه من قدر الله، ويدفعونه في ظنه، عنه، ذلك لجهالته بالله تعالى.
قال القاضي أبو محمد: وبهذا التأويل جعلها المتأول في الكافرين. قال أبو الفتح: ف {من أمر الله} على هذا في موضع نصب، كقولك حفظت زيداً من الأسد، فمن الأسد معمول لحفظت وقال قتادة: معنى {من أمر الله}: بأمر الله، أي يحفظونه مما أمر الله، وهذا تحكم في التأويل، وقال قوم: المعنى الحفظ من أمر الله، وقد تقدم نحو هذا.
وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس وعكرمة وجعفر بن محمد: {يحفظونه بأمر الله}.
ثم أخبر تعالى أنه لا يغير ما بقوم- بأن يعذبهم ويمتحنهم معاقباً- حتى يقع منهم تكسب للمعاصي وتغيير ما أمروا به من طاعة.
وهذا موضع تأمل لأنه يداخل هذا الخبر ما قررت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة، ومنه قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم- وقد قيل له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟- قال: «نعم إذا كثر الخبث» إلى أشياء كثيرة من هذا.
فقوله تعالى في هذه الآية: {لا يغير ما بقوم حتى يغيروا} معناه حتى يقع تغيير إما منهم وإما من الناظر إليهم أو ممن هو منهم بسبب، كما غير الله تعالى بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة.
فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، وثم أيضاً مصائب يريد الله بها أجر المصائب فتلك ليست تغييراً.
ثم أخبر تعالى أنه {إذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له} ولا حفظ منه، وهذا جرى في طريقة التنبيه على قدرة الله تعالى وإحاطته، والسوء والخير بمنزلة واحدة في أنهما إذا أرادهما الله بعبد لم يردا، لكنه خص السوء بالذكر ليكون في الآية تخويف، واختلف القراء في- وال- فأماله بعضهم ولم يمله بعضهم، والوالي الذي يلي أمر الإنسان كالولي هما من الولاية كعليم وعالم من العلم.
وقوله تعالى: {هو الذي يريكم} الآية، هذه آية تنبيه على القدرة، و{البرق} روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مخراق بيد ملك يزجر به السحاب، وهذا أصح ما روي فيه، وروي عن بعض العلماء أنه قال: البرق: اصطكاك الأجرام، وهذا عندي مردود، وقال أبو الجلد: البرق- في هذه الآية- الماء، وذكره مكي عن ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا القول: أنه لما كان داعية الماء، وكان خوف المسافرين من الماء وطمع المقيمين فيه عبر- في هذا القول- عنه بالماء.
وقوله: {خوفاً وطمعاً}- من رأى ذلك في الماء فهو على ما تقدم، والظاهر أن الخوف إنما هو من صواعق البرق- والطمع في المطر الذي يكون معه، وهو قول الحسن، و{السحاب} جمع سحابة، ولذلك جمع الصفة- و{الثقال} معناه: بحمل الماء، وبذلك فسر قتادة ومجاهد، والعرب تصفها بذلك، ومنه قول قيس بن الخطيم: [المتقارب].
فما روضة من رياض القطا *** كأن المصابيح حواذنُها
بأحسن منها ولا مزنة *** دلوح تكشف أدجانُها
والدلوح: المثقلة. و{الرعد} ملك يزجر {السحاب} بصوته، وصوته- هذا المسموع- تسبيح- و{الرعد} اسم الملك: وقيل: الرعد اسم صوت الملك وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع الرعد قال: «اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره: أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: سبحان من سبحت له وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد قال: «سبحان من سبح الرعد بحمده» وقال ابن أبي زكرياء: من قال- إذا سمع الرعد- سبحان الله وبحمده، لم تصبه صاعقة.
وقيل في الرعد أيضاً إنه ريح تختنق بين السحاب- روي ذلك عن ابن عباس في غير ما ديوان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندي فيه نظر، لأنها نزعات الطبيعيين وغيرهم.
وروي أيضاً عن ابن عباس: أن الملك إذا غضب وزجر السحاب اصطدمت من خوفه فيكون البرق، وتحتكّ فتكون الصواعق.
وقوله: {ويرسل الصواعق} الآية- قيل: إنه أدخلها في التنبيه على القدرة بغير سبب ساق ذلك. وقال ابن جريج: كان سبب نزولها قصة أربد أخي لبيد بن ربيعة لأمِّة وعامر بن الطفيل، وكان من أمرهما- فيما روي- أنهما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى أن يجعل الأمر بعده إلى عامر بن الطفيل ويدخلا في دينه- فأبى، فقال عامر: فتكون أنت على أهل الوبر، وأنا على أهل المدر- فأبى، فقال له عامر: فماذا تعطيني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيك أعنة الخيل، فإنك رجل فارس»؛ فقال له عامر: والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً حتى آخذك؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأبى الله ذلك وابنا قيلة»؛ فخرجا من عنده، فقال أحدهما لصاحبه: لو قتلناه ما انتطح فيه عنزان، فتآمر في الرجوع لذلك، فقال عامر لأربد: أنا أشغله لك بالحديث واضربه أنت بالسيف؛ فجعل عامر يحدثه وأربد لا يصنع شيئاً؛ فلما انصرفا قال له عامر: والله يا أربد لا خفتك أبداً ولقد كنت أخافك قبل هذا، فقال له أربد: والله لقد أردت إخراج السيف فما قدرت على ذلك، ولقد كنت أراك بيني وبينه أفأضربك؟ فمضيا للحشد على النبي صلى الله عليه وسلم فأصابت أربد صاعقة فقتلته، ففي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخوه:
أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق *** بالفارس يوم الكريهة النجد
فنزلت الآية في ذلك.
وروي عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن جباراً من جبابرة العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال: أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أو من ذهب؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه.
وقال مجاهد: إن بعض اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناظره، فبينما هو كذلك إذ نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت الآية فيه.
وقوله: {وهم يجادلون في الله} يجوز أن تكون إشارة إلى جدال اليهودي المذكور، وتكون الواو واو حال؛ أو إلى جدال الجبار المذكور. ويجوز- إن كانت الآية على غير سبب- أن يكون قوله: {وهم يجادلون في الله} إشارة إلى جميع الكفرة من العرب وغيرهم، الذين جلبت لهم هذه التنبيهات.
و {المحال}: القوة والإهلاك، ومنه قول الأعشى: [الخفيف]
فرع نبع يهتز في غصن المجد *** عظيم الندى شديد المحال
ومنه قول عبد المطلب:
لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك
وقرأ الأعرج والضحاك {المَحال} بفتح الميم بمعنى المحالة، وهي الحيلة، ومنه قول العرب في مثل: المرء يعجز لا المحالة، وهذا كالاستدراج والمكر ونحوه وهذه استعارات في ذكر الله تعالى، والميم إذا كسرت أصلية، وإذا فتحت زائدة، ويقال: محل الرجل بالرجل إذا مكر به وأخذه بسعاية شديدة.


الضمير في {له} عائد على اسم الله عز وجل، وقال ابن عباس: {دعوة الحق}: لا إله إلا الله.
قال القاضي أبو محمد: وما كان من الشريعة في معناها.
وقال علي بن أبي طالب: {دعوة الحق}: التوحيد. ويصح أن يكون معناها له دعوة العباد بالحق، ودعاء غيره من الأوثان باطل.
وقوله: {والذين} يراد به ما عبد من دون الله، والضمير في {يدعون} لكفار قريش وغيرهم من العرب..
وروى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء: {تدعون من دونه} بالتاء من فوق، و{يستجيبون} بمعنى يجيبون، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النِّدا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
ومعنى الكلام: والذين يدعوهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون بشيء. ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط {كفيه} نحو الماء ويشير إليه بالإقبال إلى فيه، فلا يبلغ فمه أبداً، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع. وقوله: {هو} يراد به الماء، وهو البالغ، والضمير في بالغة للفم، ويصح أن يكون {هو} يريد به الفم وهو البالغ أيضاً، والضمير في بالغه للماء، لأن الفم لا يبلغ الماء أبداً على تلك الحال.
ثم أخبر تعالى عن {دعاء الكافرين} أنه في انتلاف و{ضلال} لا يفيد فيه شيئاً ولا يغنيه.
وقول تعالى: {ولله يسجد} الآية، يحتمل ظاهر هذه الألفاظ: أنه جرى في طريق التنبيه على قدرة الله، وتسخر الأشياء له فقط، ويحتمل أن يكون في ذلك طعن على كفار قريش وحاضري محمد عليه السلام، أي إن كنتم لا توقنون ولا تسجدون، فإن جميع {من في السماوات والأرض} لهم سجود لله تعالى: وإلى هذا الاحتمال نحا الطبري.
قال القاضي أبو محمد: و{من} تقع على الملائكة عموماً، وسجودهم طوع بلا خلاف، وأما أهل الأرض فالمؤمنون منهم داخلون في {من} وسجودهم طوع، وأما سجود الكفرة فهو الكره، وذلك على نحوين من هذا المعنى:
فإن جعلنا السجود هذه الهيئة المعهودة فالمراد من الكفرة من يضمه السيف إلى الإسلام-كما قال قتادة- فيسجد كرهاً، إما نفاقاً، وإما أن يكون الكره أول حاله فتستمر عليه الصفة، وإن صح إيمانه بعد.
وإن جعلنا السجود الخضوع والتذلل- على حسب ما هو في اللغة كقول الشاعر:
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر *** فيدخل الكفار أجمعون في {من} لأنه ليس من كافر إلا وتلحقه من التذلل والاستكانة بقدرة الله أنواع اكثر من أن تحصى بحسب رزاياه واعتباراته.
وقال النحاس والزجاج: إن الكره يكون في سجود عصاة المؤمنين وأهل الكسل منهم.
قال القاضي أبو محمد: وإن كان اللفظ يقتضي هذا فهو قلق من جهة المعنى المقصود بالآية.
وقوله: {وظلالهم بالغدو والآصال}، إخبار عن أن الظلال لها سجود لله تعالى بالبكر والعشيات. قال الطبري: وهذا كقوله تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله} [النحل: 48] قال: وذلك هو فيئه بالعشي وقال مجاهد: ظل الكافر يسجد طوعاً وهو كاره. وقال ابن عباس: يسجد ظل الكافر حين يفيء عن يمينه وشماله، وحكى الزجاج أن بعض الناس قال: الظلال هنا يراد به الأشخاص- وضعفه أبو إسحاق.
و {الآصال} جمع أصيل. وقرأ أبو مجلز: {والإيصال} قال أبو الفتح: هو مصدر أصلنا أي دخلنا في الأصيل، كأصبحنا وأمسينا.
وروي أن الكافر إذا سجد لصنمه فإن ظله يسجد لله تعالى حينئذ.
وقوله: {قل: من رب السماوات} الآية، جاء السؤال والجواب في هذه الآية من ناحية واحدة، إذ كان السؤال والتقرير على أمر واضح لا مدافعة لأحد فيه ملزم للحجة، فكان السبق إلى الجواب أفصح في الاحتجاج وأسرع في قطعهم من انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقع البدار إليه، وقال مكي: جهلوا الجواب وطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، فلما تقيد من هذا كله أن الله تعالى هو {رب السماوات والأرض} وقع التوبيخ على اتخاذهم {من دونه أولياء} متصفين بأنهم لا ينفعون أنفسهم ولا يضرونها، وهذه غاية العجز، وفي ضمن هذا الكلام: وتركتموه وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولفظة: {من دونه} تقتضي ذلك.
ثم مثل الكفار والمؤمنين بعد هذا بقوله: {قل هل يستوي الأعمى والبصير}.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: {تستوي الظلمات} بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: {يستوي} بالياء، فالتأنيث حسن لأنه مؤنث لم يفصل بينه وبين عامله شيء. والتذكير شائع لأنه تأنيث غير حقيقي، والفعل مقدم.
وشبهت هذه الآية الكافر ب {الأعمى}. والكفر ب {الظلمات} وشبهت المؤمن ب {البصير} والأيمان ب {النور}: ثم وقفهم بعد: هل رأوا خلقاً لغير الله فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلهاً غير الله؟ ثم أمر محمداً عليه السلام بالإفصاح بصفات الله تعالى في أنه {خالق كل شيء} وهذا عموم في اللفظ يراد به الخصوص في كل ما هو خلق الله تعالى. قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما من الأصوليين: ويخرج عن ذلك صفات ذاته- لا رب غيره- والقرآن، ووصف نفسه ب {الواحد القهار} من حيث لا موجود إلا به، وهو في وجوده مستغن عن الموجودات لا إله إلا هو العلي العظيم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5